Thursday, April 20, 2017

No Smoking!



ممنوع التدخين
بقلم: أحمد محاميد
    كنت مسافراً من المطار فجراً، كالعادة وصلت مبكراً وأنهيت اجراءات الدخول إلى صالات الركاب بعدما قمت بتسليم حقائبي وخضعت للتدقيق الأمني وختم الجوازات، تنفست الصعداء وأنا أصعد الدرج الكهربائي إلى الصالة، فصعودي هذا الدرج هو بمثابة شهادة أن سجلي لا يزال نظيفاً!
   كان هنالك لا يزال أكثر من ساعة لأقلاع طائرتي، هنالك حركة نشيطة بعض الشيء في المطار مقارنة مع هذا الوقت من الصباح.  بدأت بالتسكع في السوق الحرة، وتجولت في معظم معارضها لم أشتر إلا صندوقين من السجائر تكفيني في سفري، فسعر السجائر هناك أكثر من خمسة أضعاف سعره هنا! هذه بلا شك إيجابية كبرى لنا نحن معشر المدخنين، ذهبت إلى أحد محلات القهوة واشتريت كوباً كبيراً من القهوة وهممت بتدخين سيجارة. ما هذا؟ الصالات مزينة بالكثير من شاخصات ممنوع التدخين باللغتين العربية والانجليزية! نعم لقد تم أخيراً البدء بتطبيق قانون منع التدخين في المطار بعد مدة ليست قليلة من تطبيقه في معظم مطارات العالم المتمدن. ولكن الوضع هنا  مختلف عن معظم المطارات التي زرتها فالكثير يتحدون هذا القانون ويستلذون بتدخين سجائرهم في الصالات، هل يجرؤ أحد على سؤالهم باطفاء سجائرهم؟
   على كل حال، أنا رجل مختلف فأنا اتقيد بالقوانين ولن أقرهم على مخالفاتهم، فأخذت كوب قهوتي وبدأت بالبحث عن منطقة مخصصة للتدخين، وجدتها في أحدى زوايا صالة الركاب الخلفية، غرفة صغيرة تغص بالمدخنين، رائحتها نتنة وتملأ أرضيتها الكثير من أكواب القهوة الفارغة الملئ بأعقاب السجائر المطفئة.  الجو عبق بالدخان، لم يعجبني الموقف وفكرت "أصلاً نحن المدخنون سخيفون، ونستحق هذا!".
   خرجت من غرفة المدخنين وتوجهت إلى صالة الركاب وأخترت طاولة قريبة من "بوابة" الطائرة المخصصة للانطلاق بحيث اتوجه مباشرة إلى صالة الاقلاع عند المناداة، الطاولة بجانب احدى زوايا الصالة، اخترت كرسياً مشرفاً على الصالة وكان ظهري إلى الحائط، كان خلفي مباشرة على أعلى الحائط اشارة ممنوع التدخين واضحة كبيرة وكأنها تراقب الصالة، نظرت إلى الشاخصة متفحصاً وكأني أقول لها أني إحترمتك، ثم جلست وبدأت بالعبث بجهازي الخلوي تارة ومراقبة المسافرين يجيئون يذهبون تارة أخرى.
   جاء مجموعة من الشباب وجلسوا على بعد طاولتين مني، كانوا يتحدثون بلهجة انجليزية واضحة فهم ينطقون أحرف العلة بطريقة مميزة، أعمارهم في منتصف العشرينات كانوا صاخبين ويتحدثون عن شخص اسمه ستيف، ستيف هذا ليس معهم ولكنهم ويطلقون عليه النكات على الدور ويبدأون بالضحك والقهقهة عليه، كانوا يتحدثون عن أحدى اللعب الرياضية - ليست كرة القدم- ويطلقون النكات عن غباء ستيف في أدائها!. كان أكثرهم نشاطاً وصخباً شخص سمين ورغم صغر سنه إلا أنه كان أصلعاً ولم يكن لديه شعر إلا على أطراف رأسه ويلبس نظارات طبية، لقد كان هؤلاء الشباب الانجليز مفرطي النشاط وقد كسروا صمت صالة المطار الرتيب في الصباح. استمريت في العبث في هاتفي النقال ولكن أختلس النظرات بين فينة  وأخرى إلى هؤلاء الشباب مع أنني أسمع كل ما يقولون لإرتفاع صوتهم ولا يفصلني عنهم إلا طاولة فارغة واحدة على بعد أمتار من طاولتي.
   بعد قليل جاء رجل يجر حقيبة صغيرة يلبس زي الطيارين كحلي اللون، يبدوا أنه في أول الأربعينات نحيف وأنيق المظهر، أشقر الشعر وأزرق العينين، يبدو عليه أنه من الدول الأوروبية، ربما فرنسياً أو ألمانياُ أو بلجيكياً جلس على الطاولة الفارغة التي أمامي مباشرة والموضوعة بين طاولتي وطاولة الشباب الانجليز وجهه بأتجاهي وظهره للشباب الانجليز، جلس وعدل كرسيه وأخرج من جيبه جهازه الخلوي وبدأ بالعبث فيه. بعد قليل بدأ "الطيار" بالبحث في جيوبه مرة أخرى وأخرج علبة سجائر وأعواد ثقاب واشعل سيجارة بينما كان يعير انتباهه لجهازه الخلوي.
لقد أثار إمتعاضي اشعاله للسيجارة في منطقة غير مخصصة للتدخين، وسألت نفسي متعجباً: هل يجرؤ أن يفعلها في أي مطار أوروبي؟ لم أتدخل لقد أحسست أنني أضعف من أن أقول له أن يمتنع عن التدخين ويطبق القانون، فأقراني معظمهم يخالفون القانون وشعرت أنهم يخذلوني. تخيلت المشهد الذي يتكرر عند كل هبوط لي في المطار عائداً من رحلاتي المتعددة، فعند نزولي مباشرة من الطائرة إلى صالة المطار، أجد الكثير من المواطنين الذين دخلوا بأذن خاص لعند باب الطائرة لاستقبال زوارهم ، مع أنهم يخرقون القانون بدخولهم في تلك المنطقة الممنوعة وفوق ذلك تجد معظمهم يدخنون في تلك المنطقة الممنوعة للتدخين، الرجال فقط يدخنون في الاماكن العامة، فنحن  مجتمع يعتبر التدخين أمر رجولي.
  يبدو أن احد الشباب الانجليزقد نبه الشاب الأصلع أن ذلك الطيار يدخن في مكان ممنوع، الشيء الذي لم يقبله هؤلاء الشباب،  بدأ الشاب الأصلع الأنجليزي بالتظاهر بالسعال الشديد، كان يبالغ في سعاله وتبعه الشباب الأخرون، يبدوا أنهم نسوا صديقهم ستيف (الذي كان موضوع حديثهم وسخرتهم قبل هذا الموقف) ووجهوا نشاطهم للتحرش بهذا الطيار الذي ظن أنه لا بأس أن يخالف القوانين في هذا المطار فمعظم المواطنين يخالفون، ولكنه لسوء حظه وقع تحت قبضة ذلك الانجليزي الأصلع ورفاقه.
   لقد عرف الطيار أن هؤلاء الشباب يقصدونه، وأن تدخينه لا يروق لهم، وأنهم يحثونه على اطفاء سيجارته، لا بد أن ذلك بدأ بمضايقة الطيار إذ أنزل رأسه بين كتفيه وكأنه يحاول أن يصد كفاً من الشرطة ولكنه قامر بالاستمرار في التدخين رغم صخب السعال الكذب الذي أثار انتباه معظم من في الصالة، الذين صاروا ينظرون إلى المشهد الذي زاد من ضيق واحراج ذلك الطيار. لم يهمل الشاب الانجليزي الأصلع ذلك الطيار طويلاً وبادره بالكلام قائلاً له من خلفه بلهجه حادة وبصوت عالٍ بلغة انجليزية.
   أنت، لماذا تدخن في مكان غير مخصص للتدخين ، إلا ترى أنك تؤذينا بدخانك؟   انظر إلى أصدقائي، بعضهم على وشك الاغماء! ألم يعلموك أن تتقيد في التعليمات ألست من طاقم الطائرة؟
   حدث كل ذلك النقاش في حين لم ينظر الطيار خلفه أبداً، ولكنه قام على الفور من فرط إحراجه بإطفاء السيجارة.
  سادت فترة من الصمت بعدها ولم يكسر هذا الصمت إلا صوت مكبرات الصوت للمناداة على أحدى الرحلات استمر الطيار بالعبث في جهازه الخلوي بهدوء، بينما خفف الشباب الانجليز من صخبهم وضحكاتهم، فقد أصبحوا يتحدثون بهدوء الآن، ربما لتخفيف الاحراج عن ذلك الطيار الذي نفذ طلبهم وربما تطبيقاً لقول ذلك الدبلوماسي الأمريكي "اترك لخصمك فسحه يخرج منها بماء الوجه".
   بدأت في التفكير بسؤال نفسي أسئلة متعددة أثارها ذلك الموقف الذي حدث أمامي، ماذا لو كان المدخن محلياً، هل سينصاع إلى طلبات الشاب الأصلع ورفاقه الانجليز؟ أم يقول: "الا تعرف مع من تتكلم؟" هل ستبدأ مشاجرة؟
-         ماذا لو كان الشباب مواطنون وليسوا انجليزاً؟
-         ماذا لو؟ ماذا لو؟ ماذا لو؟
   أسئلة كثيرة متعددة ظلت تجول في خاطري، ولم يقطع حبل هذه الأفكار إلا صوت مكبرات الصوت تعلن عن فتح الطائرة لدخول الركاب استعداداَ للأقلاع فتوجهت إلى البوابة المخصصة للاقلاع وعاودتني نفس الأفكار وأسئلة أخرى كثيرة!









No comments: